728 x 90



img

ذكرت في مقال سابق أن فهم أسباب الاضطرابات والأمراض النفسية يعتبر من الأمور الهامة لعدة اعتبارات، ومن أهمها:
1. فهم طبيعة المرض النفسي فهما حقيقيا واقعيا، مما سيؤثر على مواقفنا وتعاملنا مع هذه الأمراض وعلى المصابين بها، وكما يقال “إذا عرف السبب بطل العجب”.
2. للتعرف على المعالجات، دوائية أو نفسية أو اجتماعية للعلاج.
3. للعمل على الوقاية من بعض هذه الأمراض بالابتعاد عن العوامل المسببة، أو على الأقل لتخفيف الإصابة، وتحسين مضاعفات المرض.
ونقول عادة أن للاضطراب أو المرض النفسي ثلاثة أبعاد متداخلة، طبية ونفسية واجتماعية
(Bio-Psycho-Social) وهناك من يضيف بعدا رابعا وهو البعد الروحي أو الإيماني (Spiritual)
أي أن هناك عدة عوامل تتداخل مع بعضها مما يسبب الاضطراب النفسي، وربما كل واحد منها قد لا يسبب هذا الاضطراب، إلا أن تراكم العوامل يُظهر المرض.
البعد الطبي، وكمثال عليه:
1. الوراثة
2. كيمياء الدماغ
3. الصحة الجسدية
4. الحمل والولادة

البعد النفسي، وكمثال عليه:
1. شخصية الفرد
2. الأزمات والصعوبات الحياتية
3. فقدان الدعم والتأييد الاجتماعي
4. التعلم والاكتساب

البعد الاجتماعي، وكمثال عليه:
1. مرحلة الطفولة
2. فقدان الدعم والتأييد الاجتماعي
3. العلاقات الاجتماعية

وسنتناول في هذه المقالة البعد الطبي الحيوي الأول.
أولا- الوراثـــة:
يعلم معظم الناس أن الأمراض العقلية أو النفسية غير “معدية”، ولكن الاهتمام الأكبر هو في قضية انتقال المرض للأولاد بالوراثة. وهذا من الأمور الهامة في البحث الطبي خلال السنوات الماضية، حيث وجد أن التأثير الوراثي أمر ثابت في بعض الأمراض النفسية كالفصام، والهوس لاكتئابي، وإن كانت طريقة تأثير الوراثة مازالت غير واضحة تماما.
ويبدون أن دور الوراثة أنها تهيئ الشخص للإصابة بالمرض النفسي، ولكن هذه الإصابة لا تحدث إلا بتدخل عوامل أخرى مباشرة تؤثر في هذا الإنسان المعرض وراثيا للإصابة.
وكلما كانت القرابة العائلية أقرب للمصاب كلما زاد احتمال إصابتة، فإمكانية إصابة أولاد المصاب أكبر من إمكانية إصابة أبناء عمه.
ولكن يبقى احتمال إصابة الأولاد دون الإصابة الأكيدة بكثير، أي ليس بالضرورة أن يصاب الأولاد، وهذا دليل على إن الإصابة ليس مردها الوراثة فقط، وإنما هناك أيضا مشاركة الابن لوالديه في البيئة والمعيشة.
وقد وجد أن التؤأمان المتماثلين والذين يشتركان في نفس العوامل الوراثية، حتى لو أنه تمّ عزلهما عن بعضهما وعن أسرتيهما منذ الصغر، وربيّا في أسرتين أو حتى مدينتين مختلفتين يبقى احتمال إصابة أحدهما احتمالا كبيرا إذا كان التوأم الآخر مصابا بمرض نفسي، وهذا من أقوى الدلائل على التأثير الوراثي.
ويبقى تأثير الوراثة في الأمراض النفسية الخفيفة وفي اضطرابات الشخصية تأثيرا أقل وضوحا من غيره،
وإن كان لها بعض التأثير في بعض صفات شخصية الإنسان. فاحتمال إصابة أقرباء المصاب بالقلق مثلا احتمالا كبيرا بسبب المعايشة المشتركة أكثر من كونه تأثير العوامل الوراثية.

ثانيا – كيمياء الدماغ:
تحاول الكثير من الأبحاث الطبية النفسية أن تركز على فهم هذا الجانب من أسباب الأمراض النفسية.
فمن المعروف أن الجملة العصبية، والدماغ خاصة، يعمل من خلال مواد كيميائية تصنّع داخل الخلايا العصبية، وتمر عبر هذه الخلايا لتنقل الأثر من خلية لأخرى مجاورة. وتسمى هذه المواد الكيميائية بالنواقل العصبية (Neuro-transmitters) ، حيث تطلق الخلية العصبية بعض هذه النواقل العصبية لتذهب وتؤثر بدورها على مستقبلات كيميائية خاصة متواجدة على سطح الخلية العصبية المجاورة، وبذلك تنتقل “الأوامر” العصبية عبر الجملة العصبية.
وغير معروف بدقة عدد هذه النواقل إلا أن هناك العشرات منها. وكل واحد منها له دوره وتأثيره الخاص المثير أو المهدئ للخلية العصبية. وتؤثر هذه النواقل في بعضها البعض، إما معدّلة أو مثيرة، بحيث يكون الأثر النهائي عبارة عن مجموع ومحصلة تدخل عدد من هذه النواقل العصبية.
ولهذه النواقل دور كبير في وظيفة العواطف والمشاعر والتفكير والنوم والحركة والشهية للطعام والرغبة الجنسية، وغيرها من الأنشطة والفعاليات.
ويعتقد أن خللا في بعض وظائف هذه النواقل يتدخل مباشرة في إحداث بعض الأمراض النفسية. فالزيادة أو النقصان في كمية أحد هذه النواقل، أو بشكل أدق اضطراب التوزان بين بعض النواقل يؤثر بشكل مباشر في الحالة العقلية والنفسية للإنسان.
وكثير من الأدوية التي نستعملها في معالجة الأمراض النفسية تعمل عن طريق التأثير المباشر في النواقل العصبية هذه، مفعّلة أو معطلة لها، وبذلك تعدل الحالة النفسية للمريض. ومثال على هذه الأدوية مضادات الاكتئاب التي تزيد من بعض النواقل العصبية ومنها مادة “السيروتونين” الذي يطون ناقص عند المصاب بالاكتئاب.
وما زال هذا الجانب من الطب النفسي يتوقع الاكتشافات الكثيرة خلال السنوات القادمة.

ثالثا – الصحة الجسدية:
إن لحالة الجسم الصحية ولبعض الأمراض العضوية تأثير كبير على الصحة النفسية للإنسان. فالهذيان (Delirium) مثلا، وهو اضطراب عقلي يؤثر بشدة على معظم الوظائف العقلية والنفسية، فإنه ينتج عادة عن تعرض الدماغ للأذى المباشر بسبب بعض الأمراض كرضوض الرأس الشديدة، والنزف الدماغي، والأورام الدماغية العصبية، والتهابات الدماغ، وحالات التسمم الحاد وكثير غيرها.
وهناك أيضا العته أو الخرف الشيخي (Dementia)، وهو الذي يشاهد عندما تضعف عند المصاب المسن معظم الملكات العقلية، من التفكير والذاكرة والعاطفة والسلوك، فإنه يحدث بسبب بعض الأمراض المزمنة، كنقص بعض الفيتامينات التي لها وظيفة أساسية في الدماغ، مما ينتج عنه موت بعض الخلايا العصبية، والتي يصعب شفاؤها أو استبدالها بخلايا جديدة. ومن أكثر أنواع العته الشيخي الألزهايمر (Alzheimer).
إن الهذيان يعتبر الشكل الحاد القصير الأمد لتعرض الدماغ للأذى، بينما يعتبر الخرف الشيخي الشكل المزمن الطويل الأمد .
وهناك أمراض جسدية عامة لا تنشأ في الدماغ أو الجملة العصبية إلا أنها تسبب أعراضا عصبية ونفسية، فقد تظهر أعراض القلق والاكتئاب بسبب اضطراب في بعض الغدد الصماء، كغدة الدرق المتواجدة في العنق. وكذلك قد يظهر الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية عقب الأمراض الطويلة مثل الأنفلونزا، والتهابات الكبد، وأمراض القلب، والأمراض العصبية والعضلية المعقدة المزمنة.
وما يتعرض له الوليد من رضوض وأذيات الدماغ أثناء الولادة يمكن أن يكون له تأثير، فقد وجد مثلا كثرة حدوث رضوض الولادة هذه عند الأطفال الذين يصابون بعد بلوغهم ببعض الأمراض النفسية كالفصام.

رابعا – الحمل والولادة:
ليس هناك مايشير إلى أن الحوامل أكثر عرضه للأمراض النفسية، إلا أن الولادة بحد ذاتها، قد تسبب بعض الحالات النفسية من الاكتئاب، والتشوش الذهني، وحتى شكل شديد يشبه الفصام القصير الأمد. وقد تبدأ هذه الحالات ولأول مرة بعد أيام من الولادة.
ومما يمكن أن حدث للمرأة الحامل من عواقب الولادة الحالات الثلاث التالية:
 الاكتئاب الخفيف عقب الولادة ويصيب غالبية السيدات الوالدات (75 – 80 %).
 اكتئاب ما بعد الولادة، ويصيب (5 – 25 %) من السيدات الوالدات.
 ذهان ما بعد الولادة، ويصيب بنسبة (1-2 / 1000) من الولادات إلا أن النسبة ترتفع مع إصابات سابقة مماثلة إلى (1000/100).
ولا يعرف تماما أسباب هذه الإصابات عقب الولادة ومنها:
 الاضرابات الهرمونية وقت الولادة
 الجهد والإنهاك وقت الولادة
 الصعوبات النفسية والاجتماعية التي قد تصاحب استقبال المولود الجديد، وخاصة لدى الأم التي تفتقد الخبرة العملية في رعاية وليدها، أو التي لا تتلقى الدعم والمساعدة والتأييد الاجتماعي ألسري الكافي ممن حملها.

الخلاصة:
أن الأمراض النفسية قد تنتج عن أسباب متعددة متداخلة، عضوية ونفسية واجتماعية. والغالب أن يشترك أكثر من عامل واحد من هذه العوامل، وإن كنا نجد أحيانا الأثرالأكبر لأحد هذه العوامل دون غيره.

د. مـأمون مبيض
استشاري الطب النفسي، مدير إدارة العلاج والتأهيل
مركز دعم الصحة السلوكية