728 x 90



img

بعد أن إنتهى الخطيب من خطبة الجمعة، بدأ بالدعاء قائلاً “اللهم انصرنا على أنفسنا قبل أن تنصرنا على أعدائنا” مكرراً هذا الدعاء ثلاث مرات. وقفت ملياً عند هذا الدعاء الذي أثر في نفسي وبدأت أفكر كيف يمكن أن يكون له من أهمية كبيرة في حياتنا اليومية واضعاً أساساً للسلوك الإنساني السليم. بعد الانتهاء من الصلاة سألت بعض الأصدقاء الذين شاركوني الصلاة، لماذا كرر الإمام هذا الدعاء ثلاث مرات؟ وماذا كان يقصد بذلك؟ فكان التفسير: الإنسان ينتصر على نفسه عندما يكون عنده رغبة بعمل شيء يؤذي به نفسه أو غيره من الناس ولكنه يعدل عن هذا السلوك ويستبدله بفعل الخير والتسامح وبذلك تنهزم النفس أمام صاحبها.
إتفق علماء النفس علي أن الغرائز قوة كامنه تتبلور مع تطور الانسان و تفاعله مع البيئة المحيطة به و تعتبر محركاً داخلياً تؤثر في سلوك الانسان و تدفعه إلي التصرف بسلوك معين، و قد تناول النفس تناولوا موضوع الغرائز و تأثيرها علي السلوك الإنساني و من أوائل هذه النظريات نظرية الغرائز التي تبناها عالم النفس ماكدوجل حيث أوضح بأنه يوجد ما يشبه القوى الداخلية التي تدفع الإنسان للقيام بسلوك ما لتحقيق هدف ما والتي في كثير من الأحيان تتعارض مع الدين و القيم أو العادات و التقاليد الاجتماعية التي يتقبلها الناس. أما عالم النفس الشهير صاحب نظرية التحليل النفسي فرويد فقد قسم الغرائز إلي غريزتين رئيسيتين غريزة الحياة والتي تدفع بالفرد إلى السلوك البناء. والثانية غريزة الموت والتي تظهر في الميل للتدمير الذي يحدثه الإنسان .
وهنا يمكن القول إن الإنسان ينتصر على نفسه عندما يعمل على إعلاء غرائزه وتوجيهها في الاتجاه السليم والمفيد ليس له فحسب بل وللآخرين ممن حوله، ويتعامل معهم بتسامح وبقلب طيب ولا يكون العكس حيث يجاري المرء دوافعه وطموحاته الشخصية متجاهلاً ما تسببه نتائج هذه الغرائز والدوافع من آثار سلبية له وللآخرين. فعلى سبيل المثال لا الحصر المدرس الذي يضرب تلميذاً ضرباً مبرحاً لأنه لم يؤد واجبه المنزلي، يبرر سلوكه هذا بما يتماشى مع إرضاء دوافعه الشخصية بأن عدم أداء الواجب المنزلي قد يؤدي إلى تأخير التلميذ في الدراسة وبالتالي تدني الدرجات التي سيحصل عليها هذا التلميذ ولكن المدرس في داخله يشعر شعوراً خفياً بأن عدم أداء الواجب المنزلي يعتبر نوعاً من العصيان وعدم الاحترام والطاعة للمدرس وبالتالي يؤثر هذا على سمعة المدرس وعلى تقاريره الشهرية عند المفتشين وبالتالي يحب أن يعاقب هذا التلميذ حتى لا يحصل كل هذا لكن في واقع الحال يستطيع هذا المدرس أن يفكر بطرق أخرى مقبولة وبدون أن تسبب الأذى للآخرين والتي من الممكن أن تصل به إلى هدفه غير المعلن.

الغرائز عند الإنسان هي ما لديه من استعدادات فطرية تدفعه للقيام بسلوك خاص إذا ما أدرك نفسه في موقف أو مجال معين ومن الغرائز التي أثبتها مكدوجل مثلاً غريزة الخلاص والمقاتلة والغريزة الوالدية والغريزة الاجتماعية وغريزة التملك ، إضافة إلى الغرائز التي يرتبط أغلبها بالحاجات الجسمية العادية كالنوم والتبول وغير ذلك. وكما وضحنا بالمثل السابق فإن الدوافع للسلوك تكون في أحيان كثيرة دوافع غير مباشرة، كحب العلم والانكباب على طلبه قد يكون حقيقة بدافع الاستطلاع وحب المعرفة وقد يكون من بين الدوافع إليه دافع السيطرة والمقاتلة لأنه كلما زادت درجة التعليم والشهادات العليا فيجب أن يكون ارتفاعاً في المنصب حتى لو كان على حساب شخص آخر.
إن الشخص الذي لا يمسك زمام نفسه وغرائزها لا يستطيع أن ينتصر عليها إلا إذا تمكن من إدراك نتائج الدوافع وسيرها بما يتناسب مع العادات والتقاليد قبل ترجمة هذه الدوافع إلى سلوك.

ولزيادة التوضيح نذكر مثلاً يتردد كثيراً في حياتنا اليومية، لنفترض أن شخصاً ما لديه حاجة ملحة للنقود ولنفترض أن صديقاً له أعطاه نقوداً كأمانة لكي يسلمها لشخص ثالث فماذا يحدث هنا؟ الشخص الذي لديه حاجه للنقود قد يسلك إحدى المسالك الثلاث التالية:-
• إعطاء النقود لصاحبها بدون أي تردد أي إعطائها للشخص الثالث.
• يأخذ النقود لنفسه ولا يسلمها لصاحبها ويضع بعد ذلك المبررات.
• أن يؤجل تسليم النقود بعد قضاء حاجته منها.

وما حدث هنا هو صراع يقع فيه الشخص بين الرغبة في قضاء حاجته والرغبة في أن يكون أميناً وبالطبع ينتج هنا صراع تتغلب فيه إحدى الرغبتين الأخريين.

فإن سلم النقود لصاحبها فهذه لأن فكرته عن نفسه من حيث الأمانة لا تغريها حاجته للمال وبالتالي توجه سلوكه لاتجاه المقبول اجتماعيا والتي تحقق له السعادة والسرور.
وهذا يحدث في حال ثبات الشخصية وتماسكها ولكن تحقيق الثبات والتماسك ليس بالأمر الهين على كثير من الأشخاص الذين لا يستطيعون الموازنة بين الدوافع الداخلية وما يصدر عنها من سلوك مقبول اجتماعيا ليساهم في بناء المجتمع وليس أداة لهدمه. وهذا لا يتحقق إلا عندما نضحي ببعض المطالب الشخصية وكبح جماح غرائزنا لكي ننتصر على أنفسنا. هذا في رأيي ما قصده إمام المسجد في تكرير دعائه (3) مرات.