728 x 90



img

نتابع ما ابتدأنا في الجزء الاول من المقال:
وفي غمرة هذا الانشغال البومي، أنسى أو أتناسى ذلك الكائن المسمى بـ (النفس)، فلا يبقى لي إلا أن ألقي بنفسي (أو بجزء منها وهو الجزء الخفي والأهم: الجزء الروحي) في السرداب (أو القبو)، فترة من الزمان، حتى أكاد لا أعرف عنها شيئا، ولا أكاد أستجيب لها إلا إذا صرخت بأعلى صوتها لحاجة شديدة للماء أو للغذاء أو لقضاء الحاجة أو لغير ذلك؛ ثم لا ألبث أن أعيدها قسرا إلى السرداب؛ ثم أمضي في حياتي اليومية، لأنغمس في تلبية حاجات الجسد والعيش مع الآخرين فقط، بعيدا عن نفسي .
أما نفسي، فهي مسجونة في السرداب، لا سبيل لها إلى الحرية، فلا هي تطالب بحقوقها، ولا أنا أسمع لها صوتا، وإذا سمعته ربما (خنقته) بيدي!!! ممنوعة من الخروج إلى (ساحة البيت)، لا هي تملك أن يراها الناس، ولا هي تتكلم في حضورهم، ولا هي تصرّح برغباتها في وجودهم، ولا هي تحيا ما تعتقده إذا ما خالفهم.
وهكذا أعيش يومي وليلتي، في البيت وفي الشارع وفي المسجد وفي المدرسة وفي الجامعة وفي النوادي العلمية والعملية والرياضية والاجتماعية والمهنية! أعيش عالة على هذه الحياة، لست أحيا ما خلقت من أجله، ولست أشعر بالطمأنينة أو بالسعادة أو بالرضا! كل هذا، من أجلهم هم، من أجل الآخرين، هكذا تربيت، وهكذا (أعيش)!!!

وهنا، تظهر على السطح أسئلة كثيرة، منها:
ما الذي أعرفه أو لا أعرفه عن النفس؟!
ما الذي أعرفه عن نفسي وما لها من حقوق؟!
ما هي طبيعة العلاقة السويّة مع النفس؟!
لماذا يمكن أن تتدهور العلاقة بيني وبين نفسي؟!
كيف يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الدرك؟!
كيف لي أن أشعر بالطمأنينة أو السعادة أو الرضا وأنا في حالة من الغربة عن نفسي؟!
كيف لي، إذا كانت هذه حالتي، أن أكون سببا في العبادة / استعمار الأرض / الاستخلاف؛ ومفاهيم مثل “النهضة” مثلا؟!
وعودة إلى قصة (النفس والسرداب):

هكذا، تمرّ لحظات عمري وأنا في غفلة شديدة عن النفس وعن حاجاتها (الطبيعية)! وحينها تسير الأمور على النحو التالي:

· انشغال عن النفس وحاجاتها (الطبيعية).
· تدهور حال النفس (في سردابها) دون إدراك مني؛ حتى تبدأ بإطلاق نداءات استغاثة طلبا للنجدة والعون والإنقاذ.
· زيادة في الانشغال عن النفس مع شيء من الحيل الدفاعية، ولعل أبرزها هنا: المخادعة (أو التجاهل والإنكار). فيكون الشغل الشاغل: الناس / المهنة / الهاتف الجوال أو الخليوي / التقنية الإعلامية (التلفزيون) / الإنترنت وما فيه، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي / مراكز تحفيظ القرآن / الدروس والمحاضرات العامة / الدورات التدريبية / العمل الخيري، وغيرها.
· زيادة في تدهور حالة النفس حتى تظهر أعراض ليس لها سبب عقلي / منطقي (ظاهر)، مثل: ضيق الصدر، أو خوف من أمر غير اعتيادي ولا منطقي، أو تحول سالب في الرغبة أو الاستمتاع في الحياة وأنشطتها المتنوعة، وغير ذلك من أعراض. وربما عبر البعض عن هذه الأعراض بكلمات مثل: أريد أن أبكي ولا أعرف لماذا!!! لماذا لا أشعر بالسعادة مع تحقيقي لإنجازات كثيرة؟!
· شعور عارم بـــ عدم العلم أو الجهل بالسبب الحقيقي وراء ما أنا فيه (وهو النفس حبيسة السرداب)؛ ويظهر هذا عادة في تكرار عبارة (لا أعرف)! وهنا، تبدأ سلسلة مما نعرفه بـــ الحيل الدفاعية.
· زيادة في الانشغال عن النفس مع شيء من تنويع وسائل (الهروب) منها، والصبر والمصابرة والمكابرة على (وجعي)!!!
· تكرر ظهور الأعراض التي ليس لها سبب ظاهر!!!

عبدالرحمن ذاكر الهاشمي
طبيب استشاري العلاج النفسي والتربوي