728 x 90



img

نتابع الجزء الاخير من المقال :
ماهي قصة النفس؟

· وصول صوت النفس (من السرداب) إلى بعض من يجلسون في ردهات القصر وغرفه، حتى إذا ما سألني بعضهم عن مصدر الصوت تهربت من الإجابة وخادعتهم بأن الصوت ليس من (نفسي) وإنما من (نفس مجاورة)! أو منهم هم! أو من “التلفزيون” مثلا!!!
· تكرر ظهور الأعراض التي ليس لها سبب ظاهر، حتى يبلغ الأمر حدا (مخيفا)، مثل: سلوك مفاجئ وغير معتاد / انهيار عصبي / محاولة انتحار، أو غيرها من أعراض (مفاجئة)!!!
· محاولة السعي لمعرفة السبب، لكن مع خوف المواجهة وضعف الإرادة للإصلاح. ويظهر هذا في المراوغة الشديدة عندما يحاول البعض أن يوجهوني نحو النفس؛ وقد يصل الأمر إلى محاربتي لهم وانقلابي عليهم. ويظهر هذا في تهربي من الجلوس مع كل من يذكرني بنفسي أو بتقصيري في حقها أو بضرورة مواجهتها وتزكيتها، ومن أبرز هؤلاء: أهل البيت / الأب / الأم / الزوج / الزوجة / الأبناء / الأصدقاء المقربون الصادقون الصرحاء / أهل الاختصاص النفسي، وغيرهم.
· التساهل في إلقاء اللوم على أي شيء، حتى ولو كانت أشياء (مقدسة) مثل: الله / القضاء والقدر / العدل الإلهي، وغيرها؛ المهم أن يبقى اللوم خارج حدود النفس.
· إذا اقتربت مساعي البحث من حدود النفس، تحولتُ من الضعف إلى القوة، ومن الطيبة إلى الشراسة، ومن الدفاع إلى الهجوم، حيث تظهر كل أنواع الحيل وأسلحة الدفاع (الذاتية)، ولعل أبرزها: محاولة هدم وإسقاط كل شيء.
· وهنا، تكون خطوات الحل الأولى، إخراج النفوس الأخرى من القصر، بقصد الالتفات إلى النفس.
· إذا ما وصلت إلى حدود النفس، أي: إذا ما اقتربت من السرداب، وإذا ما تجاوزت الحيل الدفاعية وأسلحتها، تقابلني تلك الرائحة الكريهة الصادرة من (النفس)، مما يدفعني لمراجعة التفكير في (فتح الباب) و (مواجهة النفس). وهذه المرحلة ليست سهلة ولا قصيرة (حتى وإن ظهر الأمر هكذا في الكتابة عنها)، بل قد أستغرق فيها أياما وليالي وأسابيع وشهورا!!!
· فإذا صدقت النية والعزم والتوجه، وإذا تمكنت من التقدم نحو باب السرداب وفتحه (وهو ما سنعبر عنه لاحقا باسم “قراءة النفس”)، تظهر المفاجأة حين أكتشف أنني أمام كائن غريب عني، وكأنني أراه لأول مرة؛ هنا يظهر لي أنني لا أعرف نفسي؛ وهنا يظهر السبب الحقيقي الذي كنت أجهله (أو أتجاهله)، والذي هو وراء ما أنا فيه = الجهل بالنفس.
· هنا، وداخل هذا السرداب (الذي أصبح أشبه ما يكون بـــ الحصن العنيد)، وبعد أن انتهينا من حرب ضروس لنصل إلى ما وصلنا إليه، تبدأ الحرب الحقيقية، وتبدأ المواجهة الأصعب، المواجهة مع النفس.
· هنا تخيّم حالة من الهدوء الذي يعبر عنه البعض بأسئلة مثل: ما الذي ينبغي عليّ أن أفعله إذا جلست وحدي؟ ماذا أقول لنفسي إذا خلوت بها؟ لماذا أشعر فجأة بأن الكلمات تتفلت من ذهني ويمسكها لساني؟ لماذا أشعر فجأة أن كل ما كنت أعده لهذه الجلسة من كلمات اختفى وغاب؟ هل من الطبيعي أن أشعر برغبة في الهرب من هذه المواجهة؟ وغيرها من أسئلة تدور في نفس الفلك.
· وهذا الهدوء هدوء ذو حدّين.
· فإما أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة، عاصفة الهجوم الشرس وغير المسبوق على الآخر أو على نفسي نتيجة الخوف الشديد منها أو الحنق عليها؛ والخوف سببه جهلي بها والذعر مما آلت إليه حالتها في السرداب، كما إن الحنق سببه التساهل في تحميل النفس الذنب فيما دنت إليه؛ فأبدأ بهدم كل ما حولي داخل هذا الحصن.
· وإما أن يكون الهدوء الذي يسبق حالة من الحزن والندم والبكاء، لنفس الأسباب التي دفعتني للخوف والحنق، ولكن تلك الأسباب تدفعني هنا للشعور بالذنب تجاه نفسي، وهي حالة طبيعية وسويّة.
· وهنا، قد أعود فأرتدّ على عقبيّ، وأنتكس مرة أخرى، فأختار إحدى اثنتين.
· الأولى) أن (أنتكس) بأن أهرب وأعود مرة أخرى إلى العيش مع الآخرين ولأحبس نفسي في السرداب، ولكن هذه المرة، على علم مني ووعي، إلا إنني، وبعد فترة من الزمن، قد أغيب في العالم الخارجي، ويغيب معي علمي ووعيي، فيستحيلان نوعا من الوهم الذي يصحبه توهم آخر يبدأ بوعي وينتهي بحالة قريبة من اللاوعي، وهو شعوري بأنه “لا مشكلة هناك” أو “أنا أفضل من غيري”! ومن صور هذا التوهم، الهرب إلى عالم الوهم والهلوسة، فهذا يهرب من مواجهة نفسه ليقول إنه “المهدي المنتظر” أو “المسيح” أو “بوذا” أو “قديس معين” أو “زائر من الفضاء” أو أي شيء يستدعى من ذهن النفس المصابة بالخوف من المواجهة، وتلك تهرب من مواجهة نفسها لتقول بأنها “مسكونة بالجن” أو “مصابة بالعين أو الحسد” أو “أنا مريم العذراء”، وغير ذلك من أنواع الوهم الكثيرة!
لافتة مهمة: لا يعني هذا إنكار حقيقة العين أو الحسد أو المس، ولكنني أتحدث هنا عن أولئك الذين يهربون إلى هذه المفاهيم دون اجتهاد.
· والثانية) أن (أنتكس) بأن أنضم إلى نفسي في سردابها، وأكون أنا الآخر حبيسا في هذا العالم، أعيش ولا أحيا، جسدا بلا روح فاعلة؛ وهذا ضرب من ضروب الاكتئاب؛ فأبقى حبيس السرداب، ولكن باختياري هذه المرة.
· أما إذا اخترت الهدوء، فيبقى لي حينها أن أجلس إلى نفسي، وأن أخلو بها، وأن أستمع لها، وأنصت إليها، أي: أن أقرأها. وهذه القراءة ليست سهلة أو يسيرة، بل هي رحلة طويلة ربما تخللتها كثير من المحطات التي قد أجد فيها ما لا يسرني.
· فإذا ما قرأت نفسي، بقي لي حينها أن أقبلها كما هي، بعيوبها وبعلاّتها وبسوءاتها؛ قبولا لا يعني الموافقة على ما هي فيه أو ما آلت إليه، إنما هو قبول يسبق التعارف والتصالح والتوافق؛ وهذا أقل ما تستحقه نفسي مني جزاء إهمالها.
· فإذا ما قبلت نفسي، أصبح من السهل عليّ أن أقدّرها، أن أصلح من حالتها، أن أطهّرها = أن أزكّيها.
· وتحصل التزكية بأمرين متتابعين: الأول: التخلية (أو التفريغ)، والثاني: التحلية (أو التزويد والشحن).
· أما التخلية، فتكون بالعمل على إزالة كل ما في النفس من شوائب وعيوب ومساوئ، سواء كانت متعلقة بعلاقة النفس والله، أو النفس وذاتها، أو النفس والآخرين؛ وسواء كانت متعلقة بالماضي أو بالحاضر أو حتى بالمستقبل؛ أو ما يعرّفه العلماء على أنه: أمراض القلوب (أو النفوس)، مثل: الجهل، والشبهات، واليأس، والقنوط، والكبر، والكره، والغيظ، والحسد، إلخ. وبهذه التخلية، تصبح النفس مؤهلة بما فيه الكفاية ليتم تحليتها (أو تزويدها) بما يصلحها ويزكّيها.
· وأما التحلية، فتكون بتزويد النفس بما يصلحها جسدا وروحا؛ ويكون هذا بأمرين: العلم، والعمل. وأعني بـــ العلم: العلم بـــ [من أنا ولم أنا]. وأعني بـــ العمل: الانشغال فورا بتحقيق ما أعلمه في حياتي اليومية. وهنا، وفقط هنا، يمكن لي أن أكون سببا في تحقيق العبادة / العبودية والخلافة وإعمار الأرض.

عبدالرحمن ذاكر الهاشمي
طبيب استشاري العلاج النفسي والتربوي