728 x 90



img

الصحة النفسية المجتمعية: مبادئ وأهداف
برز في العقدين الأخيرين توجه عالمي لعلاج المشاكل والاضطرابات النفسية داخل المجتمع، وأصبح ذلك عملا مطلوبا وضروريا لتحقيق مستوى صحي أفضل للمجتمع، وهذا التوجه صاحبه العمل على بناء مصحات عزل عقلية وهدم المصحات العقلية القديمة والتي اعتمدت على عزل المريض في مكان بعيد عن الناس لا يستطيع إبداء رأيه في الامور التي تخص صحته، حيث كانت تعتمد طريقة العلاج على الأدوية والجلسات الكهربائية.
التوجه المجتمعي:
وهذا التوجه ليس جديدا؛ ففي العقدين السابقين كان هناك محاولات جادة كثيرة لوضع ديناميكية تكون لها نتائج إيجابية في علاج المشاكل النفسية والاجتماعية أمثال كابلن جوينز، وروبرت بنت، وانجل فريدمان وغيرهم. وبناء عن هذه الآراء العلمية، تبنى كثيرا من القادة السياسيين هذا التوجه ودعموه بكل مالديهم من قوة سياسية؛ فنجد الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي يتبنى سياسة الصحة النفسية المجتمعية، ويسن قانونا يدعو إلى علاج المشاكل النفسية في المجتمع والتخلى عن المصحات العقلية، ونجد البرلمان الإيطالي الذي تبنى نفس القانون إضافة إلى فتح أقسام للعلاج النفسي في المستشفيات العامة، وفتح مراكز صحية نفسية مجتمعية في مناطق مختلفة بحيث لايزيد عدد الناس المنتفعين من المركز الواحد على 250.000 نسمة، وبعد ذلك تبنت دول كثيرة مثل بريطانيا، والنرويج، وكندا، وإيطاليا، وأمريكا …الخ هذا التوجه الذي أصبح قانونا صحيا مدعما بآراء البرلمانيين والسياسيين والعلماء والمفكرين والعاملين في حقل الصحة النفسية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هو لماذا تبنت هذه الدول هذه السياسة المجتمعية؟ وما الأسباب التي دفعتها إلى تبني هذا التوجه؟ وهدم المصحات العقلية والنفسية القديمة وعدم بناء مصحات جديدة؟
والإجابة على هذا السؤال تتمثل فيما يلي:
أولا: أكد كثيرون من العلماء في مجال الصحة النفسية والعلاج النفسي وكذلك العلماء في مجال العلوم الاجتماعية أمثال كوفمان على أن العلاج داخل المستشفيات يؤدي إلى عزل المريض عن المجتمع فترات طويلة واعتماده اعتمادا كلياً على الأدوية دون أن يكون له أي رأي في العملية العلاجية المقدمة له، وهذا لا يساعد المريض على تحقيق الثقة بالنفس وتحقيق الذات، وبالتالي يؤدي إلى عدم مقدرة المريض على التكيف في المجتمع بعد خروجه من المستشفى، وعندما أصبح لهذا الرأي قوته في المحيط العلمي والفكري وبين أوساط العاملين فى حقل العلاج النفسي أصدرت الكلية الملكية البريطانية للأطباء النفسيين نشرة كان لها صدى كبير في عام 1974 ضد إنشاء المصحات العقلية، وطالبت بوضع خطة لهدم وغلق الموجود منها أو تحويلها إلى مراكز مجتمعية.
ثانيا: تكاليف الخدمات النفسية المقدمة عن طريق المستشفى كثيرة فى الوقت الذي لا تخدم فيه المستشفى إلا نسبة قليلة من السكان، كذلك فإن المحتاجين لخدمة المستشفى فى المناطق النائية لا يستطيعون الوصول إليها، إضافة إلى أن المستشفى لا تهتم بالبيئة المحيطة المساعدة في حدوث الاضطراب “المرض”، كذلك لا يوجد الاهتمام المطلوب من قبل المختصين، حيث التركيز على الجسم والأعراض لا العوامل التى ساعدت على حدوث الاضطراب (المرض).
ثالثا: إن عزل المريض فى مستشفى خاص بالطب النفسي يدخل المريض في دائرة وصمة العار، وينظر الآخرون له على أنه مجنون مما يسبب الشعور بالخجل والعار لعائلة المريض مما يترتب على ذلك العديد من المشاكل الاجتماعية لكل من العائلة والمريض.
المفهوم العام للصحة النفسية:
إن الصحة النفسية المجتمعية بمفهومها العام: هي عبارة عن تطوير الفرد والمجتمع من خلال الاهتمام بالمدارس ورياض الأطفال والنوادي وكل التجمعات السكانية. والتركيز على الصحة النفسية يكون من المنظور الصحي وليس من المنظور المرضي، ولا يكون المعالج هنا هو المصدر الوحيد للمعلومات الصحية كما لا يكون هو أهم مصدر لتلبية احتياجات المريض، ولكن على المعالج النفسي داخل المجتمع أن يتعاون مع الأفراد في المجتمع أو مع من يمثلهم لتحديد الاحتياجات، والتخطيط سويا للتطور المستقبلي، وذلك يتم عبر تحديد الإمكانيات الداخلية المتاحة فى المجتمع لصالحه ولمساعدة المريض، وبذلك يشعر المريض بأنه عضو فاعل في المجتمع الذي يعيش فيه وليس مجرد عضو لا قيمة له، وبالتالي فإن الصحة النفسية المجتمعية تهدف إلى تدعيم مفهوم الصحة النفسية ليس فقط للذين يعانون من الاضطرابات بل لكل أفراد المجتمع.
عندما بدأت المراكز الصحية النفسية المجتمعية في الانتشار كانت تهدف إلى:
 علاج وتأهيل المرضى النفسيين في المجتمع بعيدا عن المصحات العقلية والمستشفيات الخاصة.
 تقديم خدمات مكثفة وشاملة وتشمل العلاج الداخلى في قسم الأمراض النفسية فى مستشفى عام أو وحدة صحية وليس بالضرورة أن يكون في مصحة عقلية، وتقديم خدمات نفسية مجتمعية، ومتابعة المريض في المجتمع وعلاجه في حالات الطوارئ، وفتح أقسام للاضطرابات النفسية في المستشفيات العامة، وفي حال احتياج الشخص إلى ملاحظة سريرية.
 التعاون والتنسيق مع المؤسسات الموجودة في المنطقة التي تقع تحت نطاق ومسئوليات المركز يمكن أن تساعد فى خدمة المريض.
 خدمة متوفرة وسهلة الوصول لكل شخص فى المنطقة التى تقع تحت نطاق ومسئوليات المركز بغض النظر عن مقدرة الشخص على دفع ثمن هذه الخدمة، وتكون متوفرة على مدار الساعة.
 يقوم المركز بعمل الفحوص النفسية عن الاضطرابات السائدة والعوامل التي ساعدت أو تساعد على حدوثها وكذلك تقوم بتقييم الخدمات النفسية المقدمة.
 نشر الوعي الصحي النفسي في المجتمع بجميع شرائحه مع بيان الأسباب التي تؤدي إلى المشاكل النفسية وبذلك تخفف من وصمة العار المصاحبة لهذا الاضطراب وتخفف من نسبة حدوث مثل هذه الاضطرابات.
بقي أن نركز على أن هناك العديد من الدروس التي يمكن الاستفادة منها ومنها خبرات الذين تبنوا هذا الاتجاه وهذه الدروس يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عندما يضع المخططون الصحيون وصانعوا القرار في أي نظام صحي يتعلق بالخدمات النفسية فى العالم العربي وأهمها ألا نكرر نحن ما اكتشف العالم خطأه وهو الاعتماد على المصحات العقلية.