728 x 90



img

الدكتور / العربي عطاء الله قويدري
استشاري في الإرشاد النفسي

ماهي الصحة النفسية ؟

هي حالة شبه مستقرَّة، يكون فيها الفرد متوافِقًا نفسيًّا واجتماعيًّا مع نفسه ومع بيئته، ويشعر فيها بالسعادة مع نفسه ومع الآخرين، ويكون قادرًا على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وإمكانياته إلى أقصى حد ممكن، ويكون قادرًا على مواجهة مطالب الحياة، وهناك علاقة طرديَّة بين الصحة النفسية وتقدير الذات؛ فالصحة النفسية تعني أن الشخص يتمتَّع بقدر كافٍ من تقدير الذات واحترامها، وهذا التقدير بدوره يزيد من صحة الفرد؛ مما ينعكس على تقدير الذات وهكذا، فتبدو السعادة هنا وكأنها عملية دائمة ومستمرة، غير أن تجارِب الحياة تُظهِر الأمر بصورة مختلفة، وكثيرًا ما يَفقد الواحد منا شعوره بالسعادة، وهذا يعني حدوث اعتلال في صحته النفسية.
وكما يمكن وصف الشخص الذي يتمتَّع بجسم سليم بصفات ظاهرية وداخلية، والكشف عن ذلك بالفحوص والتحاليل الطبية، فالأمر ذاته يَسرِي على الصحة النفسية، ومن هنا يمكن أن نَصِف الشخص الصحيح نفسيًّا بأنه في الغالب يتمتع بالشعور بالسعادة الداخلية والاكتفاء النفسي، وتراه يحمل هدفًا يسعى لتحقيقه، وحياته في
نظره ذات قيمة، وهو مُقدِّر لإمكانياته وطاقاته، ولا يتوقَّع من ذاته تحقيق ما هو فوق طاقتها، وهو ذو شخصية قادرة على التطور والنمو، فلا يثبت على حال لشهور طويلة، بل هو دائم التجدد والتطور باكتساب المعارف والخبرات وخوض التجارِب، وفوق ما سبق هو ذو عالَم داخلي هادئ بلا صراعات، ولديه القدرة على التعبير عن مشاعره وضبْط مشاعره السلبية أيضًا كالقلق والإحباط، أما عن مظاهره الخارجية، فتتمثَّل في القدرة على العمل بكفاءة وإنتاجية، وتكوين علاقات دافئة مع الآخرين، يَملِك قدرًا كبيرًا من السيطرة على البيئة المحيطة به وباستطاعته اتخاذ قراراته بمفرده، مُقدِّر جيد لمشاعر الآخرين واحتياجاتهم، بالطبع تبدو الصفات السابقة مثالية لدرجة كبيرة، ولكن درجة الصحة النفسية تعتمد على ما تستطيع تحصيله منها، أو بقول آخر: هي مجموع نِسَب ما تُحرِزه من نجاح في كل صفة من الصفات السابقة.
والصحة النفسية كالبدنية تتأثَّر بعوامل عديدة اجتماعية ونفسية وبيلوجية، وتختلف باختلاف المرحلة العمرية والظروف، وقد تتحسَّن صحة الفرد النفسية في فترة معينة، ثم تتوعَّك قليلاً، ثم تتعافى وهكذا، وما يؤدي إلى تعافيها من جديد هو مدى وعي الشخص وثقافته، فأنت بالطبع تعرف أعراض التعب والاعتلال البدني؛ كالإجهاد وارتفاع الحرارة أو ارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه وهكذا، ولكن هل تعرف حقًّا أعراض الاعتلال النفسي؟
إن عدم قدرتك على الشعور بالسعادة والتوافق مع ذاتك أو مع الآخرين – يُعَد عَرَضًا من أعراض الاعتلال النفسي، ولا يعني ذلك المرض النفسي الذي يستدعي التدخل والمساعدة الطبية لعلاجه، وإن كان العلاج النفسي حقًّا لا غبار عليه، بل هو لدى العقول والثقافات المتفتحة ليس إلا تدليلاً للنفس ومزيدًا من العناية بها، على كلٍّ بجانب عدم قدرتك على الشعور بالسعادة أو التوافق هناك عدم القدرة على التركيز، النسيان وصعوبة الحفظ والتذكر – إذا لم تكن تعاني من ضعف الذاكرة بشكل عام – الشعور بالتعب السريع، الملل،
– 1 –
فِقدان الرغبة بالعمل، الميل للانعزال، الحساسيَّة المُفرِطة، انخفاض كفاءتك أو إنتاجيتك في العمل، عدم القدرة على تكوين علاقات اجتماعية دافئة مع الآخرين، كل تلك مظاهرُ للاعتلال النفسي، وهو اعتلال طبيعي ولا يدعو للقلق، بل يتطلَّب قدرًا كافيًا من الوعي والسعي للعلاج والتعافي السريع؛ حتى لا تتفاقم الأمور مع مرور الزمن لتَجِد نفسك ذات يوم مصابًا بالاكتئاب مثلاً.
من أشهر الاضطرابات النفسية التي تعتري صحةَ الإنسان النفسية من حين لآخر: اضطراباتُ الضغط النفسي، والضغط النفسي هو حالة بدنية وشعورية تنتاب البشر جميعًا وفي جميع الأعمار، يختبرها الشخص عندما يشعر بوجود خطر يُهدِّد أمنه أو استقراره أو وجوده المادي أو الاجتماعي، أو كون هذا الخطر يُهدِّد مَن تَربِطه به علاقات أسرية أو عاطفية، فعندما تَفقِد عملك تعاني من ضغط نفسي؛ نتيجة تهديد استقرارك وأمنك المادي، وعندما يُصاب طفلك بالمرض تتعرَّض للضغط؛ نتيجة شعورك بخطر يُهدِّد طفلك الذي تربِطك به علاقة عاطفية وطيدة، وعندما يتهيأ الطالب للامتحان يتعرَّض لضغط؛ نتيجة وعيه بكون الامتحان عاملاً يُهدِّد مستقبله الدراسي وهكذا، وعلى هذا النحو تبدو الضغوط كظواهر طبيعية جدًّا من الضروري – بل والحتمي – أن يتعرَّض لها الواحد منا؛ ولهذا يتحدَّث عنها هانس سيلي بقوله : الضغط النفسي هو رد فعل الإنسان على التغيرات التي هي جزء من حياته اليومية، ولأجل هذا يَبرُز عامل السن بوضوح، حيث تَجد ردَّ فعل الشاب يختلف كثيرًا عن الرجل الناضج مثلاً، كما يبدو أن لعامل الجنس دورًا أيضًا، فرد فعل السيدات يختلف عن الرجال وإن تشابهت المواقف.
وبما أن مستوى الصحة النفسية له دوره في تشكيل رد الفعل تُجاه متغيرات الحياة، وبالتالي في مواجهة الضغوط وشدتها، فهذا يعني أن الأشخاص الأصحاء نفسيًّا سيكونون أقدر من غيرهم على مواجهة الضغوط والتعافي منها سريعًا، فكلما كنت متوافقًا مع نفسك ومقدرًا لها سيكون بإمكانك تَجاوُز تلك الضغوط بأقل خسائر، أما الأشخاص المتوعكون نفسيًّا، فسيكون وقْع الضغوط عليهم شديدًا، وربما أدى ذلك إلى تدهور حالتهم النفسية، وهكذا هم من سيئ لأسوأ، كمن يعاني من الأنيميا ثم يصاب بنوبة زكام حادة ثم بنزلة معوية وهكذا، ولو أن بِنيته الجسدية أفضل لتغلَّب على نوبة الزكام سريعًا قبل أن تُهاجِمه النزلة المعوية مثلاً ولخفت وطأة الأخيرة عليه.
وبما أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وهي مُتغيِّر من حين إلى حين، وبما أن درجة تحكُّم الإنسان وسيطرته على الحياة من حوله محدودة، فإن تَعرُّضه للضغوط يبدو حتميًّا، ومع ذلك فبعض الضغوط ذات أثر إيجابي في تقوية الفرد وإكسابه الخبرة، كما أنها تعمل عمل المحفِّز، ومن ذلك الضغط الناشئ لدى الطالب من مواجهة الامتحان مثلاً، مما يدفع الطالب للمزيد من الاستذكار وبذل الجهد، ومع ذلك يبدو أن الطالب المتفوق سيحظى بتأثير المحفِّز، خاصة إذا كان يتمتَّع بدرجة عالية من الثقة بالنفس والسيطرة على ما يتوجَّب عليه دراسته طوال العام، على عكس الطالب الخائف الذي قد ينهار سريعًا تحت وطأة ضغط الامتحان، فتتأثر ذاكرته وقدرته على التركيز؛ مما يعني الفشل المؤكد.
ولكي تُجنِّب نفسك ويلات الضغوط؛ عليك إذًا أن تعرف كيف تحمي نفسك وترفع من مستوى صحتك النفسية، أو بعبارة أخرى: عليك أن تقوِّي من مناعتك النفسية، ويستلزم ذلك العديد من الإجراءات ، وهي كالآتي :
أولا: أن تُعزِّز ثقتك بذاتك، ويتطلَّب ذلك أن تكون واقعيًّا في التعرف على ذاتك، تُحدِّد إمكانياتك وطاقاتك بدقة ودون مبالغة، تتحرَّر من الصور الذهنية التي يرسُمها لك الآخرون، وتتبنَّى صورة خاصة لذاتك كما تراها
– 2 –
أنت، تَرسُم لك هدفًا وتسعى لتحقيقه، على أن يكون هدفك متماشيًا مع إمكانياتك ولا يفوقها؛ حتى لا تصاب بالإحباط، تتبنى هدفًا طويلاً وتُقسِّمه لأهداف قصيرة، وكافئ ذاتك مع كل هدف تُنجِزه، والمكافأة قد تكون نزهة أو وجبة محبَّبة أو الالتقاء بصديق أو مشاهدة برنامج محبَّب أو اقتناء كتاب جديد أو حيوان أليف أو تحقيق أمنيَّة لك، وكل إنجاز سوف ينعكس على مدى تقديرك لذاتك وسيدفعك خطوة للأمام.
ثانيًا: يتوجَّب عليك أن تكون يَقِظًا لكل ما يحيط بك، احصر الأشخاص والمواقف والأحداث التي تُحفِّزك وتشعرك بالضغط وتَجنَّبها قدرَ الإمكان، ولا يعني ذلك أن تكون جبانًا وغير قادر على المواجهة، وإنما يعني تفادي ما يُمكن تفاديه دون خسائر.
ثالثًا: تعلَّم كيف تُنظِّم وقتك، لا تُنجِز أعمالاً متعددة في وقت واحد، ابدأ بالأولويات، اترك هامشًا إضافيًّا من الوقت تحسُّبًا للظروف الطارئة.
رابعًا: تَجنَّب الإرهاق، ولا تعمل لفترات طويلة، خذ قسطًا من الراحة عندما تعمل لفترة طويلة وتذكَّر أن المهم هو جودة ما تُنتِجه لا كَمُّ ما تُنتِجه.
خامسًا: تعلَّم كيف تكون مرنًا ككرة المطاط تضغطك الحياة ولا تشوِّه مظهرك وتُفقِدك طبيعتك، فمهما بذلت من جهد فسيطرتك محدودة وهناك أشخاص ومواقف وظروف تَفرِض نفسها عليك فرضًا، ولا تُجدي الحرب المستمرة دائمًا، في بعض الأحيان تحتاج للمرونة والصبر.
إن كل ما سبق يُعَد وقاية نفسيَّة، لكنها وحدها لا تغني، فهناك جانب بيولوجي عليك بمراعاته، حيث يحتاج جسدك للراحة والنوم، وبالطبع تختلف حاجة الجسد للنوم حسب العمر والنشاط المبذول، إلا أن الشخص العادي يحتاج إلى ساعات نوم تتراوح ما بين ست إلى ثماني ساعات يوميًّا، والأفضل أن تكون ليلية وفي مواعيد منتظِمة، وللنوم والراحة تأثير قوي على صحة الفرد وقدرته على مواجهة الضغوط النفسية، وهناك أيضًا ممارسة الرياضة من ثلاث إلى أربع مرات أسبوعيًّا، ومن الأنشطة الرياضية المناسبة المشي، خاصة في الأماكن المفتوحة، وكذلك السباحة وركوب الدراجة، وأخيرًا الغذاء الجيد.
ويبدو أن الطبيعة بما فيها أشبه ما تكون بصيدلية متنوِّعة، وتَكثُر المقالات المنشورة في الصحف والمجلات والمدونات والمواقع الإلكترونية، والتي تتحدَّث عن فوائد الخضراوات والفواكه، على كل حال لا تخدعك العناوين الجذابة، والتي تُخصِّص فواكه دون غيرها أو أطعمة دون غيرها، واتبع القاعدة العامة: تناوَل من كلِّ الأصناف باعتدال وتنوُّع، تحصل على الفائدة مكتملة، كما يتوجَّب عليك أن تُعدِّل من عاداتك الغذائية، وأن تتناول وجبات متوازنة وبكميات معتدلة، تجنَّب المشروبات والأطعمة التي تجعلك فريسة للضغوط، المشروبات المحتوية على الكافيين والكحول، والحلويات، وبالطبع التدخين.
وبما أن الإنسان لا يعيش منعزلاً عن غيره، فعليك أن تحاول إسعاد المحيطين بكِ، وأن تُساعدهم في الحصول على صحة نفسيَّة جيدًة، مما سينعكس حتمًا على شعورك الداخلي، فعندما تحاط بأشخاص أصحاء وغير مُحبَطين، فلن ترى انعكاس مشاعرهم السلبية على مرآتك، ومن هنا تظهر مسؤولية الأب والأم داخل كل أسرة في مساعدة أبنائهم على التمتع بصحة نفسية جيدة، بل وتعليمهم أيضًا كيفية وقاية أنفسهم من الاعتلال
– 3 –
والضعف النفسي، ويبدو أن محاولة بعض الآباء فرض صور ذهنيَّة على أبنائهم لما يجب أن يَشبُّوا عليه، يُعَد خطرًا يُهدِّد صحة الأبناء النفسية؛ فقد لا تتوافق تلك الصور مع إمكانيات الابن وطاقاته، قد تفوقها فتُشعره بالعجز، وقد تَقِل عنها فتُشعِره بالعظمة والتعالي.
أما الضغوط الخارجية، فتنبع من الأسرة أو المدرسة أو العمل أو المجتمع ككل، ومنها الضغط الناتج عن فِقدان العمل أو البحث عن عملٍ أفضل، الضغط الناتج عن عدم التوافق في بعض الزيجات، الضغط الناتج عن عدم التوافق مع زملاء الصف في المدرسة أو العمل بشكل عام، الضغط الناتج عن طبيعة المجتمع وما يَفرِضه من التزامات اجتماعية وهكذا.
إن تَعرُّض الفرد للضغوط بشكل مستمر، وعدم السعي لتخفيفها والتحرر منها – يُعرِّضه لأخطار وخيمة، فبالإضافة لتأثيرها السلبي على الصحة النفسية وبخاصة الضعيفة، فإن لها آثارًا بيلوجية سيئة، حيث يُنتج الجسم المُعرَّض للضغوط كمًّا زائدًا من الطاقة فوق حاجته؛ مما يدفع الشخص لمحاولة التخلص من الطاقة الزائدة؛ سعيًا للوصول إلى التوازن المطلوب، وقد يظهر حرق الطاقة الزائد بمظاهر عدة؛ كالعصبية، الصراخ، الحركة السريعة، وقد يوظَّف بشكل جيد في ممارسة الرياضة؛ للتخلص من الطاقة الزائدة من ناحية، ولتعزيز إفراز الهرمونات المساعدة على تخفيف الشعور بالضغط النفسي من ناحية أخرى.
وفي حال تَجاهُل ما سبق، من المحتمل أن يتعرَّض الشخص الواقع تحت ضغوط نفسية كثيرة للعديد من الأمراض العضوية؛ نتيجة لإفراز العديد من الهرمونات مِثل: هرمون الكورتزول، والذي يؤثِّر على جهاز المناعة، ومن الأمراض الشائعة في هذا الجانب: تصلُّب الشرايين، ارتفاع ضغط الدم، قرحة المعدة، السرطان، السكري، أمراض القلب بشكل عام، الصداع، الأمراض الجلدية، وأمراض الحساسية كالربو، وغيرها كثير.
وعلى الجانب الآخر للعلاج نجد العلاج البدني، ويتمثَّل في ممارسة الرياضة قدرَ الإمكان، وتعديل النظام الغذائي، والحصول على قدرٍ كافٍ من النوم، والحذر كل الحذر من محاولة تفريغ الضغوط في تناول القهوة بكثرة أو تدخين السجائر بلا حساب، فعلى حين تمنح هذه أو تلك صاحِبَها بعضَ الراحة لفترة مؤقَّتة، فإنها تُصيبه بما هو أسوأ مع مرور الوقت.