728 x 90



img

التحكم في الذات من أهم الخصائص التي تميز الإنسان عن بقية المخلوقات، وهو قدرتنا على التحكم في رغباتنا الحالية وتصرفاتنا وخاصة في المواقف الصعبة والمشحونة بالانفعالات والمغريات، وهو قدرة تنمو عند الإنسان منذ مرحلة مبكرة من عمره، وتؤثر فيها أساليب التنشئة الاجتماعية والتمرين المقصود الذي يقوم به الإنسان لكبح جماح نفسه وتعويدها على نمط حياتي معين.

والصيام عبادة يمكن أن نتعلم منها التحكم في الذات، فهي قائمة على كبح الرغبات الجسدية والانفعالية وتنظيم الأفكار والنزعات السلوكية. فالامتناع عن الطعام والشراب والشهوات، والتحكم في السلوك الاجتماعي كالجهل على الآخرين، أو الرد على إساءاتهم بمثلها، بل الإحسان لهم والتسامح معهم، بالإضافة لسلوك العطاء كالصدقة وتفطير الصائم، جميعها مظاهر للتحكم في الذات وكبح جماح حبها للانتقام أو للتملك. كل هذا يفعله الصائم لهدف سام، بعيد المدى وهو الحصول على مغفرة الله عز وجل ورضوانه.

ومع أن الجميع تقريباً في غالب المجتمعات الإسلامية “يصوم” رمضان، ويظهر تحكماً في بعض العناصر على الأقل وخاصة الأكل والشرب والشهوة خلال النهار، إلا أننا في الواقع، لا نشاهد امتداداً واضحاً للتحكم في الذات على سلوك الكثير من الناس وانفعالاتهم وأفكارهم، كما أن التحكم في الذات لا يشمل في حياة الكثيرين السلوك الاجتماعي أو الاقتصادي أو العملي. لاحظ على سبيل المثال اندفاع الصائم للمبالغة في شراء ما يحتاجه ومالا يحتاجه (أو يمكنه الاستغناء عنه)، أو الاندفاع لتناول الطعام والشراب عند الإفطار أو خلال الليل، ولاحظ كذلك سلوكيات قيادة السيارة أو التدافع في الأماكن المزدحمة، أو إهمال الموظف لواجباته وانخفاض انتاجيته. كل هذه مؤشرات تدل على أن التحكم في الذات هو محدود في موضوعه (التحكم في الطعام والشراب والشهوة مثلاً) ومحدود كذلك في مداه الزمني فهو تحكم آني لحظي (خلال نهار رمضان) أو مكاني (في المنزل) وعدم تحوله لنمط حياة وعنصر رئيس ومضطرد في شخصية الإنسان يمارسه في جميع الظروف الزمانية والمكانية.

التأثير الذي تصبو إليه جميع العبادات، وفي مقدمتها الصيام، هو أن يكون التحكم في الذات نمط حياة يعيشه الإنسان في جميع الأوقات والأماكن والظروف، وسمة شخصية تلازمه في جميع مواقف وأحداث حياته. أما ما عدا ذلك فهو تأثير مؤقت يتلاشى مع انتهاء يوم الصوم أو شهر رمضان، ثم تعود حياة الإنسان (والمجتمع) لنمطها المعتاد الخالي من التحكم في الذات الذي أظهرته في رمضان، وكأنها لم تنتهي للتو من أعظم فرصة لاكتساب ذلك وجعله نمط حياة دائم.

رمضان يمكن أن يساعدنا على تحويل التحكم في الذات إلى نمط حياة مستمر من خلال مجموعة من الأساليب منها:



أداء عبادة الصوم بوعي وحضور ذهني عالي، ينقلها من مجرد عادة نمارسها، إلى سلوك واعٍ مُدرك لجميع تأثيراته على حياتنا خلال شهر الصوم وخارجه، سلوك يعتمد على الفعالية العالية في إدارة الذات والتحكم فيها.
تدوين التغييرات الإيجابية التي أحدثها رمضان في تفكيرك وانفعالاتك وتصرفاتك وعاداتك بشكل عام، وتحديد التغييرات التي ترغب الاستمرار عليها في حياتك، وفي نفس الوقت تدوين العادات السلبية التي استطعت التخلص منها في رمضان، وعقد العزم على عدم الوقوع فيها مرة أخرى، فرمضان أثبت لك جلياً أن التحكم بالذات يمكن تعلمه وجعله واقعاً في حياتك، فهو قد أظهر أن بإمكانك، ربما بشيء من المعاناة أو الصعوبة، أن تتخلص من عاداتك السلبية إذا أردت أنت ذلك، فاستثمر هذه القدرة واعمل على تنميتها حتى بعد رمضان.
التركيز على الأهداف بعيدة المدى في الحياة، وهذه من أهم متطلبات الوصول إلى تحكم عالٍ في الذات ورغباتها وانفعالاتها، وهذا لا يمنع من أن نلبي احتياجاتنا الذاتية الآنية، ولكن يجب ألا يتعارض ذلك مع المبادئ التي تقوم عليها أهدافنا طويلة المدى، أو يعرقلنا ويشتت جهودنا عن الوصول إليها.
أن نتعلم من رمضان أهمية الدوافع الداخلية الذاتية التي تنبع من أنفسنا في توجيه حياتنا ومشاعرنا وتصرفاتنا، وعدم الاعتماد على الحوافز الخارجية التي يقدمها لنا الآخرون أو تشجيعهم ومكافآتهم، فالمرء يصوم بدافع داخلي والتحكم بالذات يعتمد أساساً على وجود ذلك الدافع الذي يعطينا القدرة على تغيير عاداتنا السلبية والاستمرار على ذلك.
مما يساعدنا على التحكم في الذات في رمضان أن البيئة التي تحيط بنا تمارس نفس السلوك (الصيام)، كما تقل المغريات التي قد تصعب علينا مهمة الصيام، ولذلك، وحتى يتحول التحكم في الذات لنمط سلوك، علينا أن نبحث عن البيئة التي تساندنا للتحكم في تصرفاتنا وإحاطة أنفسنا بأشخاص يساعدوننا على تحقيق أهدافنا بعيدة المدى والتحكم في رغباتنا الآنية.
لا تحمل نفسك مالا تستطيع في محاولتك لتحقيق تحكم كامل في النفس ورغباتها، فإن ذلك لن يحصل، ولذلك لا تستعجل النتائج، فنحن نتعلم من رمضان أن من تناول مفطراً وهو ناسٍ فلا يؤثر ذلك على صومه، كما أن الشخص إذا كان مريضاً أو على سفر فيمكنه صيام أيام أخر، وهذه دلالة على أهمية عدم لوم الذات أو المثالية المفرطة عندما تخطئ وأنت تسعى لتغيير عاداتك والتحكم في ذاتك.
إن التحكم في الذات هو إحدى الصفات الأساسية لحياة الإنسان ولتحقيقه لأهدافه ونجاحه وسعادته. ورمضان يتيح لنا اكتساب تلك الصفة وتنميتها لكي تكون نمط حياة يستمر معنا في جميع أيام العام ويساعدنا على تغيير أنفسنا للأفضل وتعزيز العادات الإيجابية، والتخلص من السلبية. فنحن إذا لم نتعلم من رمضان التحكم في الذات على مدى حياتنا وفي جميع الظروف فإننا لن نتعلمه أبداً.